ماذا فعل تيار الإسلام السياسى والسلفيون مع التراث الإسلامى؟ هم سلطوا الضوء على اللامعقول فيه وأهملوا العقلانى، أو بالأصح منحوا المنشطات والفيتامينات للجزء المناهض للعقل والمشجع على النقل فقط، فتناسل لا معقول الفكر الإسلامى كالأرانب وتضخم كالورم السرطانى فى شكل كتب تصرف عليها السعودية وتبيعها مجاناً، وكاسيتات وفضائيات ومواقع نت تبث الخرافات وتشجع على الكسل العقلى، فى الوقت الذى عقموا فيه التراث الذى شجع على العقل والبحث والسؤال وحقنوه بحقن منع الخصوبة فمات هذا التراث العقلانى وانقرض ووضع على قبره قفل فولاذى له شفرة سرية، وألقى بمفتاح القفل فى قاع المحيط، وتم إعدام كل من يعرف تلك الشفرة!!

هل تصدق عزيزى القارئ أن هناك إماماً حنبلياً قدم المصلحة على النص؟ إنه نجم الدين الطوفى الذى تم وضعه ضمن المسكوت عنه فى التراث لأنه فكر واستخدم هذا العضو الضامر عند المتزمتين والذى يسمى «العقل»، وبالطبع تم اغتياله معنوياً ومطاردة تراثه حياً وميتاً بقائمة الاتهامات الجاهزة المحفوظة، فقيل عنه إنه شيعى رافضى شاذ الفكر... إلخ.

لم يشفع له علمه وذكاؤه، فهذه بضاعة لا تدخل مخازن المتطرفين دعاة الجمود، فهم يريدون دعاة «تفصيل» على باترونهم الفكرى، والويل كل الويل لمن يرتدى قميصاً فكرياً خارج مقاييس هذا الباترون، سيحكمون عليه بالعرى والتجريس طيلة حياته وبعد مماته، أرجو من كل قارئ أن يفتح مسام عقله فقط لاستقبال حيادى دون أحكام مسبقة على مثل حديث وكلام فرسان العقل من المجددين أمثال نجم الدين الطوفى الحنبلى، وبعدها فليرفض أو يقبل، ولكن المهم أن يقرأ هذا المختلف حتى لا يغسل عقله ويزيف وعيه أى عابر سبيل ويوهمه بأن كلامه هو وجهة نظر الإسلام، وليس وجهة نظر إسلامية من ضمن آلاف وجهات النظر، ولكن ماذا قال هذا الفقيه المجدد المتميز المجتهد والمختلف لكى تقوم عليه قيامة وثائرة أهل التزمت؟

يقول الطوفى: «من المحال أن يراعى الله عز وجل مصلحة خلقه فى مبدئهم ومعادهم ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم فى الأحكام الشرعية، إذ هى أهم فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضاً من مصلحة معاشهم، إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم ولا معاش بدونها، فوجب القول إنه رعاها لهم، وإذا ثبت رعايته إياها لم يجز إهمالها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعى وفق بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها وتقديمها بطريق البيان»، أى أنه ببساطة إذا تعارضت المصلحة مع نص مثبت لحكم شرعى قدمت المصلحة على هذا النص، ويبرر الإمام الطوفى ما انتهى إليه بقوله: «ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم (مصالح العباد) فلتؤخذ من أدلته.

فهذا مما يقال فى العبادات التى تخفى مصالحها عن مجارى العقول والعادات (بمعنى إن هى كده وخدها كده مفهومة ومبررة فى العبادات، صلِّ الظهر أربع ركعات.. سمعاً وطاعة لن أسأل ليه)، أما مصلحة سياسة المكلفين فى حقوقهم - كما يقول الطوفى – فهى معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا دليل الشرع متقاعداً عن إفادتها علمنا أنا أحلنا فى تحصيلها على رعايتها»، أى أنه لو وجدنا ظاهر النصوص يختلف مع ما تيقنا أنه مصلحة قدمنا المصلحة وأوّلنا النص.

رحمك الله يا طوفى، وما أحوجنا إلى نور فكرك فى تلك الظلمة الحالكة.